انه مقال فى الاهرام و لكن كان يجب ان يقراوه الجميع
كان ما استمعت إليه في وزارة الخارجية الأمريكية في واشنطن قبل أكثر من عشر سنوات,
يفسر بدرجة ما خلفيات ماأعلنه البيت الأبيض أخيرا عن تخلي الولايات المتحدة عن مساعيها لإقناع إسرائيل بتجميد الاستيطان. وحتي لا يكون رد الفعل للموقف الأمريكي, وكأن ماحدث هو مفاجأة, فان الأداء السياسي في واشنطن وفي عالمنا العربي, منذ مجيء أوباما, كان يقطع بأن هذه النتيجة هي المتوقعة.
كان ذلك أثناء لقاء مع مسئول أمريكي خلال وجودي في واشنطن, وأنا أطرح عليه سؤالا افتراضيا ونظريا هو: ألا ترون أن انحيازكم لإسرائيل, يمكن أن يضر بمصالحكم الهائلة لدي العرب ؟
وكان رده: لا يوجد في السياسة مايحفز علي مساعدة من لا يساعدون أنفسهم. ونحن لدينا تقليد في رسم السياسة الخارجية, فكلما جاء رئيس جديد الي البيت الأبيض, فهو يوازن بين تأثير القوي النشيطة والضاغطة, علي قراره السياسي. وعادة مايجد كل رئيس ضمن الجانب الخاص بالعرب, حالة تسمي بـ السكون العربي. عندئذ تكون أسباب دفعه لتغيير سياسته الخارجية غائبة.
.. ربما كانت دفقات الأمل في التغيير قوية وهادرة عندما جاء أوباما. لكن أوباما كغيره من الرؤساء, محكوم بخريطة النظام السياسي داخل الولايات المتحدة. وهو يوازن بين مكونات وقدرات الخريطة حين يتحرك فوق أرضيته.
صحيح ان الرئيس يعد صاحب القرار الأول, وواضع استراتيجيتها, لكنه لا ينفرد بصورة مطلقة بتوجيه السياسة الخارجية, فهناك سبع قوي تشارك في وضع قرار السياسة الخارجية, في مقدمتها قوي الضغط, المعترف لها بالوجود والنشاط والتأثير, حتي لو كان ذلك لحساب دولة أجنبية, كما هو الحال مع اسرائيل.
ولهذا, أفاض علماء السياسة, وخبراء السياسة الخارجية, في شرح ماأسموه كيف ان أمريكا مختلفة, من حيث ان نظامها السياسي يعمل بطريقة لا يتشابه معها أي نظام آخر, بما في ذلك الدول الأوروبية الديمقراطية.
.. وهناك مبالغة في الميل الي تضخيم قدرات القوي اليهودية علي الضغط. صحيح ان قوتها مفرطة, لأنها منظمة وتعمل علي أساس استراتيجية معروفة. لكن قدراتها لها حدود, لو أن الجانب الآخر في النزاع كانت لديه النية لينفض عن نفسه علة السكون, وأن يمتلك خاصية المبادرة, بأن يكون فاعلا وليس مجرد متلق, جالس دائما في انتظار أمريكا, وماستسفر عنه مساعيها!.
والنماذج معروفة في ردع رؤساء أمريكيين لحكومات إسرائيل حين تتحدي إرادتهم, ابتداء من ايزنهاور, وكيندي, وفورد, وبوش الأب.
فالقوة اليهودية مؤثرة, لأنها منفردة بالساحة الأمريكية المفتوحة أبوابها لمن يريد أن يدخل ويشارك ويؤثر. وهو ماستسمح به طبيعة النظام السياسي هناك, وإقامة جسور اتصال مع مختلف القوي المعترف لها بأن تكون شريكا في صناعة السياسة الخارجية!
مرة أخري, فإن أوباما منذ مجيئه الي القاهرة وخطابه الأشهر بجامعة القاهرة, راح يتحدث عن الشريك الذي ينتظر منه أن يتحرك ليسانده في حل المشاكل والأزمات, وتكرر اعلان هذا المعني في مختلف خطبه, ومنها خطابه في افتتاح الجمعية العامة للأمم المتحدة عام9002, ثم صدر عن مركز التقدم الأمريكيCenterforAmericanProgress ـ والذي يوصف بأكثر مراكز الفكر السياسي قربا من أوباما ـ بيان أسفرت عنه جلسات عمل, يعلن ان مفهوم الشريك, هو المبدأ المحوري والأساسي لسياسة أوباما الخارجية.
.. والشريك هو القادر علي الحركة والضغط والتأثير, والذي يدير قواه وإمكاناته وفق استراتيجية متكاملة الابعاد, تعبر عن مصالح أمنه القومي, وتكسبه القدرة علي لعب دور إقليمي يتجاوز حدود بلده. وهو مفهوم نتج أصلا عن اتفاق مؤسسات الأمن القومي وصناعة السياسة الخارجية, ومن بعدها أوباما كرئيس, بأن امريكا لم تعد تستطيع وحدها التصدي للتحديات لأمنها القومي, أو أن تحل منفردة المشاكل والأزمات الدولية والإقليمية, لكنها تحتاج شركاء يتعاونون معها. والشريك هو الذي تضع أمريكا وجهة نظره ومصالحه في حساباتها, فالعلاقة تبادلية.
فما الذي حدث؟... هل أقدمت الدول العربية علي المبادرة بتكليف كوادر خبراتها, وعلمائها, واصحاب المعرفة, بالبدء في تنظيم جلسات مناقشات, تتوزع علي عناوين وقضايا, وتتجمع كلها في النهاية في بلورة استراتيجية أمن قومي للعرب؟! وحشد امكانات التأثير لديها؟!.
للأسف فإن المشهد في الشرق الأوسط تتحرك فيه قوي لها استراتيجيات أمن قومي, إيران وتركيا واسرائيل فضلا عن الولايات المتحدة], وبالطبع فإن التأثير هنا يكون لمن يملك آليات الحركة, والضغط وليس من ترك ساحته فراغا استراتيجيا.
وقبل ان تصل بنا الأحداث إلي إعلان البيت الأبيض, تخليه عن مساعيه, كان يفترض في السياسة عدم إغفال قانون الاحتمالات, فهو جزء من أداء السياسة الخارجية, وألا يبقي العرب في حالة انتظار منذ عامين لنتيجة مساعي أوباما, لكن المنطقي ان يكون لديهم منذ أول يوم تصور لاحتمالات حدوث هذا التخلي ويكونوا قد جهزوا أنفسهم من يومها ببدائل للتصرف, وتوفير الضمانات لنجاح تنفيذها.
إن أوباما يدير سياسته الخارجية وفق متطلبات الأمن القومي لبلاده أولا وأخيرا, ويلتزم في الوقت ذاته بقواعد عمل نظام سياسي يعترف بالضغوط. وبالطبع فإن من يضغط, إنما يفعل ذلك تعبيرا عن مصالحه, وهو ليس سلوكا عدائيا أو غير مرغوب فيه, لكنها طبائع السياسة عندهم.